حازم درويش:
تمتد مدينة كامبن الهولندية هذه الأيام تحت أشعة شمس من لون واحد، منذ إشراقها وحتى مغيبها لا تغادر لونها الواحد هذا، لون قشور ليمون صفراء تغمقها بعض الغيوم الشاردة بين الحين والآخر، لكن اللون الليموني هذا لا يغادر سماء المدينة ولا أسقف منازلها القرميدية ولا أرصفتها الممتلئة بأوراق الشجر البنية التي تزنر لون الليمون الخريفي هذا، بخشخشتها تحت عجلات دراجة متهاودة لفتاة عائدة من المدرسة أو على وقع خطوات ثقيلة لسيدة عجوز تلتقي مصادفة بقريب لها، فيتبادلان الأحاديث عن عطلة الصيف الأخيرة التي أمضتها في إيطاليا.
إنه أيلول، ولأن الخريف يحل على المدينة حتى قبل موعده الرسمي بأسبوعين، تبدو هذه المدينة العتيقة كأنها تقرأ نفسها بألوانها المتناثرة بين البني والأصفر الكالح في كتاب تاريخي قديم عن مدن وبشر مر عليهم الكثير من مثل هذا الخريف، ثم لم تبق منهم إلا ورقة على رصيف كما تقول أغنية شهيرة يستحضرها اللاجئ الذي استوطن هذه المدينة قبل أشهر هرباً من حروب كثيرة جرت على بلاد شرقه المتوسط البعيدة.
أيلول كامبن الهولندية وخريفها يقودانه وهو جالس على كتف نهر رائق، وأجراس الكنائس العتيقة تدق عن أعمار ومدن ذاهلة عن أهلها إلى حلب البعيدة، إلى كنيسة الفرنسيسكان ومدرستها، الأوراق الصفر والبنية تملأ باحة المدرسة والشوارع المحيطة بالكنيسة، وهو بمريوله الأزرق المزنر بالفضي يقضم كعكاً بسمسم وينتظر الأوتوكار أو أحد الأقرباء ليقله إلى المنزل. عمر طويل مر بين هذا الأيلول وأيلول آخر أخير أمضاه في حلب وغادرها فيه ماراً قبل المغادرة على قلاية الموارنة، تلك الحارة القديمة النائمة خلف كاتدرائية الموارنة في حلب، والتي شاء لها قدر الحرب أن تنام على خط تماس المتحاربين ومناطقهم بعد أن اقتسموا المدينة في ما بينهم في ليلة سوداء. في الأيلول الأول، عيون الراهبة ونظرتها الصارمة وهي تلومه لأنه يأكل الكعك هكذا والآن، وفي أيلول حلب الأخير عيون أمه جالسة على طرف السرير صباح مغادرته متمنية أنه يكون عدل عن قرار المغادرة وأنه باق معها ومع المدينة وحربها حتى آخر حجر فيها.
ليس شهر أيلول بشهر موائم له لا على صعيد حياته الخاصة ولا تلك العامة، يتذكر الآن ذلك الأيلول البعيد حين عين مدرساً في إحدى القرى النائية التابعة لحلب، أراضي القمح الذهبية محصودة عن آخرها وفي الأفق حرائق ودخان وفلاحون على الدروب يبيعون العنب والتين، وأشجار زيتون كثيفة وبؤس في الوجوه وفي البيوت وأطفال يصلون المدرسة حفــاة وفقر أبيض وأسود وما بين الألوان، في تلك الأيام كان يستغرب كيف لا يقوم أهل هذه القرى بثورة على واقعهم المزري هذا، وكان أن قاموا بتلك الثورة في ما بعد ثم لم يبقوا هم ولا تلك الخيرات المسروقة قبلاً وبعداً ولا تلك البلاد.
حين وجد نفسه بلا ناقة ولا جمل لا مع الظالمين ولا مع المظلومين، نأى بنفسه عن ذلك كله، وغادر المدينة على حين غفلة من أهــــلها وخريفـــهم وخريفها، وأنت حين تغادر مسقط رأسك في أيلول لا تعود إليه، فقط تتحول ورقة صفراء تتقاذفها الفصول والمدن وتتعلم الرحيل كما تتعلم البدء كل مرة مجدداً.
أن تدخل مدينة كاسطنبول في صباح أحد أيام أيلول، فهذا يعني أنك ستخلق فيها مجدداً، بل وستعيد تعريف كل الوجود من خلالها، ففـــي هذا الشهر تتعرف المدينة الى نفسها، طقسها يصبح حنوناً، وسائحوها على مغادرة، وناسها يعبون من الحياة، كل الحياة بتعب وفرح معاً ما يكفي كل البشر ويزيد. لذا يتحول يوم مغادرتها في أيلول أيضاً غصة في الحلق تعود إليك كل صباح، وأنت تتـــخيل نفسك مستقلاً الباخرة بين طرفي اسطنبول الأوروبي والأسيوي وتشرب شاياً تركياً ثقيلاً وتمضغ كعكاً ساخناً يعيدك إلى مدرسة الفرنسيسكان في حلب وإلى راهباتها. في أيلول أيضاً، تتعرف إلى مدينتين عصيتين على الذاكرة كما على التفسير، مرسين التركية والتي تستحق من اسمها ومكانها أكبر بكثير مما منحته أقدار التاريخ لها، وبلغراد الصربية التي تبدو كأنها واقفة على أطلال زمن غدر بها ولم تعد قادرة على تجاوزه ولا على تجاوز لحظة الغدر تلك. المدينتان ذاهلتان عن العالم ويبدو الخريف وسكونه أقرب إليهما حتى من اسميهما.
ماذا يتذكر واحدنا العربي من شهر أيلول وفيه؟ أيلول الأسود والذي سال فيه من دمائنا الكثير مما نمنا عليه عقوداً طويلة حتى استفاق على بلادنا حروباً أهلية وتقسيمات واحتلالات ونزوحاً جعل كل وجودنا أثراً بعد عين أو يكاد، أو ذلك اليوم في الحادي عشر منه ذات عام حين شاءت حفنة منا دخول التاريخ فأخرجتنا منه إلى الأبد.
في الكثير من الروايات والأشعار والأغاني، يبدو أيلول بفعل الطقس وتقلباته شهراً إبداعياً/ تأملياً. ويحضر كما لو أنه محطة لتذكر ما هو عصي على النسيان على رغم تجاوزنا له زماناً ومكاناً. وفي حين تتساءل المطربة التركية لينات في أغنيتها «مساءات أيلول» أين أصبح حبيبها، فكل ما في أيلول يجعلها تفتقده من جديد، تذهب أغنية فرقة غرين داي الأميركية إلى طلب الإيقاظ بعد أن ينتهي شهر أيلول لأنهم أبداً لم ينسوا ما خسروه.
ليس أيلول شهراً للتأسي، بل هو بحسابات الطبيعة كما بنمط حياة الأفراد شهر لرد الأمور إلى نصابها، أو على الأقل لسداد ديون عن أخطاء حياة نعيشها بالمقلوب ونظن مع بداية كل عام أننا سائرون بها إلى صفحة جديدة، فنصل أيلول ونحن لا نزال نحاول تصحيح
أخطاء ومحو أشخاص وأزمنة وأمكنة، ونسعى لأن نجد سبيلاً إلى حياة ما بعيداً عنهم. فالقصة «مش طقس» كما تقول فيروز، هي فقط دورات حياة وحسابات بشر لا بد من أن تصل الى نهاياتها وتستعاد تجاربها في أيلول دون سواه من شهور السنة.
The post أصداء هولندية: أيلول الهولندي وذاكرة الخريف في الشرق! appeared first on هولندا بالعربي.