حازم درويش:
يفتح عينيه لضوء النهار الذي يعبر النافذة. الستارة الزرقاء منزاحة نحو الحائط اﻷيمن مقدار شبرين، والثلج يند مصحوبا بالمطر. جيد أنه رأى النهار. لقد تخلص من ليلة أخرى. نام واستيقظ كثيراً، خلال الليل كالعادة. لكنه نجا من الكوابيس الموحشة التي افترسته أكثر من مرة. كل مرة الكابوس ذاته؛ وهو يهرب والكثيرون يريدون القاء القبض عليه.اﻷلوان والمشاهد تتغير. لكن فحوى الكابوس واحد.
في ليلة اﻷمس شيء مميز. من كانوا يستهدفونه كانوا أفريقيين بشعور مجعدة ورؤوس مدورة ككرات. قد يكون السبب أنه رأى الكثير منهم في اﻷمس في صالة الـ»بلياردو». لم يذهب إلى الصالة ليلعب. فقط ليسمع أصوات آخرين. يحس أن هناك الكثير من الناس في العالم. الكثير منهم حتى لو لم يكن راغباً بالاختلاط بهم، تكفيه أصواتهم المكتظة. المكتبة تفرغ أحشاءه بفراغها. وبموظفها الذي يمرر الوقت بالتثاؤب. من نافذة المكتبة يرى اﻷشجار الطويلة. يتمعنها من الجذر إلى الساق إلى رؤوسها التي تلامس السماء.
هذا التأمل كان يمنحه في البداية قدرة هائلة على التنفس كحوت. مع الأيام بات يخنقه. يحس أغصان اﻷشجار تتكسر على صدره. وهو كضفدع عجوز ينق بسبب أو من دونه. ينظر إلى هذا التشبيه بانشداه. ضفدع عجوز. الضفدع مقيت كفاية من دون أن يكون عجوزاً حتى.
في صالة البلياردو يضيع بين اﻵخرين. أو هكذا يتوهم. لا يخالطهم. لكنه يتوهم أن هؤلاء الذين يحادثهم عبر نوافذ المحادثة الألكترونية ان الكلام بلا طعم لها ولا رائحة. خرجوا ليجلسوا إليه و ليحتسوا القهوة معه. قبل أن ينهض من السرير. يفكر في كارولين. ما إن يفتح الـ»نت». سيقول لها صباح الخير. وستسأله عن ليلته.
كارولين تعرف كل شيء. خاصة عن لياليه القاسية وعن أوهامه. وعن رغبته بإنهاء كل شيء. كل شيء. لكنه ولأنه لا يريد كسرها ولا جديد لديه عن أوهام كل ليلة، سيقول لها أنها كانت ليلة جيدة. وإلى جانب كلمة جيدة سيضع «سمايل» مبتسم. وربما يضع وردة حمراء أيضاً. وستفهم كارولين حينها أنها كانت ليلة سيئة كفاية. ولن تسأله عنها. وستتظاهر أنها صدقته. وسترسل له أغنية هادئة. وستحدثه عن رحلتهم غداً إلى أوترخت.
هو الذي أختار الذهاب إلى هذه المدينة. يحتاج الكثير من الصخب. الكثير من الناس. وهناك الكثير منهم. بحر هائل من الوحدة يجرف أحشاءه. ويفرغ الدم في شرايينه. هو مشوار آخر اقترحته عليه. رغبة منها أن تأخذه بعيداً عن هذا الذي يغرق فيه. سينجح الأمر كما في كل مرة وسيكونا سعيدين للغاية.
لكن وكما في كل مرة ما أن يعود إلى المخيم حتى يعود إلى الهبوط إلى القعر مجدداً. يقوم إلى الحمام ليغسل وجهه. ويفرِّش أسنانه. لعنة الله على فرشاة اﻷسنان! يفكر ما هو الوهم. وما هو الحقيقة. مشاعره تجاه كارولين. وما يعيشه ويشعر به في المخيم. يفكر أنه سيجن.
أصوات كثيرة تتزاحم في رأسه. وليحمي نفسه من الجنون قد يعود إلى اسطنبول. العودة إلى اسطنبول جنون أيضا. وللخلاص من هذا كله يفكر أنه قد ينتحر. أجل. هكذا ينتحر. فيتوقف هذا العالم عن الدوران في رأسه. يأخذ ركوة القهوة الصفراء المزينة الغالية على قلبه والتي أرسلها إليه والده من اسطنبول مع أشيائه اﻷخرى. ويضع فيها بنّاً. قبل الماء يضع البن. يفكر. هل يريد القهوة حقا؟ هذا الثقل في الرأس. في الفم. على الصدر. لن تنفعه القهوة. يعيد البن إلى وعائه الصغير. ويشرح ليمونة صغيرة في كأس ويضع ظرف الشاي الخفيف. هذا أفضل. في المطبخ. النافذة واسعة. والثلج واسع أيضا. النوارس لا تخاف الثلج. ولا تبرد. ها هي تبحث عن طعامها تحت الثلج أو فيه.
مر زمن طويل كان يحب الثلج. كان هناك الكثير من الدفء في الغرف. كان هناك الكثير من اﻵخرين. اﻵن لا يحبه. يحبسه في وحدته أكثر. يصب الماء المغلي على الشاي ويفتح النت. يلقي الصباح على كارولين، وعلى أبيه. في بريده رسالة طافحة بالحب من كارولين. اليوم عيد الحب. كارولين تعطيه الحب كل يوم. تعطيه إياه كما تمناه طوال عمره. وليس هذا العيد سوى فرصة جديدة منها لتقول له أنها معه. يحب كارولين هو. يحبها كما لو أنها قبيلة من النساء وليست امرأة واحدة. لكنه لا يريد لها أن تشعر بهذا الذي يطحنه. لا يريد لها أن تحس أنه رغم كل هذا الذي تبذله معه لا يزال يشعر بالضعف. ضعف ينخر العظام. ويرده في كل ليلة إلى ما دون الصفر بكثير. يحتسي الشاي قبل أن يبرد. حين بدأ بشرب الشاي بالليمون قبل سنين كان يفعل ذلك ليريح معدته. اﻵن يفعل ذلك ليريح روحه بعض الشيء. يشرب شفة منه ويروح يتأمل شريحة الليمون السابحة في الكأس. يتذكر أمه. يعود معها إلى إسطنبول. ثم إلى حلب. جالسان خلف نافذة صالون بيت جدته الأثير.
المطر يهطل بغزارة ويغسل أشجار الحديقة. هي تحوك الصوف وهو يقرأ الجريدة. يتبادلان اﻷحاديث و يحتسيان الشاي من وقت إلى آخر.
كان دفئا بحجم عالم. بحجم مجرة. بحجم نوم لم يعد إليه من سبيل. نوم كأنه صحو لا ينتهي. يعود إلى هولندا. إلى كأس الشاي الفارغ.
يقول وكأنه يكتشف شيئا جديدا: اليوم عيد الحب إذا. هذا يوم جيد للبدء بكتابة رواية. أي رواية. عن أي أحد. سيظل كلما خانته رغبته بالكتابة. يذكر الرواية أنه بدأ بكتابتها في عيد الحب. حينها تستكين الرواية إليه وتخجل. وتعود إلى كتابة نفسها. إلى كتابته. وهكذا حتى ينتهي هذا الذي يسبح في رأسه كله. يعود إلى غرفته و يحمل قلم وورقة ويبدأ. ويفكر: هذا العالم جميل. غدا نذهب إلى أوترخت…
بقلم: حازم درويش.
The post أصداء هولندية: غدا حين نذهب إلى أوترخت! appeared first on هولندا بالعربي.